قال أبو عمر: وأسلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيامَ الفتح فحسُن إسلامه، ولم يظهر منه ما يُنكر عليه بعد ذلك. وهو أحد النُّجبَاء العقلاء الكرماء من قريش، وفارسُ بني عامر بن لُؤيّ المعدودُ فيهم، ثم ولاّه عثمان بعد ذلك مصر سنة خمس وعشرين. وفتح على يديه إفرِيقِيّة سنة سبع وعشرين، وغزا منها الأساود من أرض النُّوبَة سنة إحدى وثلاثين، وهو هادنهم الهُدْنة الباقية إلى اليوم , وغزا الصَّوارِي من أرض الرُّوم سنة أربع وثلاثين؛ فلما رجع من وِفاداته منعه ابن أبي حُذيفة من دخول الفُسْطَاط، فمضى إلى عَسْقلان، فأقام فيها حتى قُتل عثمان t . وقيل: بل أقام بالرَّمْلة حتى مات فارًّا من الفتنة. ودعا ربه فقال: اللَّهُمَّ ٱجعل خاتمة عملي صلاة الصبح؛ فتوضأ ثم صلّى فقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات،وفي الثانية بأم القرآن وسورة، ثم سلّم عن يمينه، ثم ذهب يسلّم عن يساره فقبض الله روحه. ذكر ذلك كلّه يزيدُ بن أبي حبيب وغيرُه. ولم يُبايع لعليّ ولا لمعاوية ( رضي الله عنهما ). وكانت وفاته قبل ٱجتماع الناس على معاوية. وقيل: إنه تُوُفِّي بإفريقِيّة. والصحيح أنه تُوُفِّيَ بعَسْقلان سنة ست أو سبع وثلاثين. وقيل: سنة ست وثلاثين. وروى حفص بن عمر عن الحَكم بن أبَان عن عكرمة أن هذه الآية نزلت في النّضر بن الحارث؛ لأنه عارض القرآن فقال: والطاحنات طحناً. والعاجنات عجناً. فالخابزات خبزاً. فاللاقمات لقماً.
قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ} أي شدائده وسكراته. والغَمْرة الشدّة؛ وأصلها الشيء الذي يغمُر الأشياء فيُغطّيها. ومنه غَمَرَه الماء. ثم وُضعت في معنى الشدائد والمكاره. ومنه غَمَرات الحرب. قال الجوهري: والغَمْرة الشدة، والجمع غُمَر مثل نَوبة ونُوَب. قال القُطَامِيّ يصف سفينة نوح عليه السلام :
وحَانَ لِتالِكَ الغُمَرِ انْحِسَارُ وغَمَراتُ الموت شدائده.
{وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ} ابتداء وخبر. والأصل باسطون. قيل: بالعذاب ومَطارق الحديد؛ عن الحسن والضحاك. وقيل: لقبض أرواحهم؛ وفي التنزيل: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (الأنفال: 50) فجمعت هذه الآية القولين. يقال: بسط إليه يده بالمكروه. {أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ} أي خلصوها من العذاب إن أمكنكم، وهو توبيخ. وقيل: أخرجوها كرهاً؛ لأن روح المؤمن تَنْشَط للخروج للقاء ربه، وروح الكافر تُنْتَزع ٱنتزاعاً شديداً، ويقال: أيتها النفس الخبيثة ٱخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله وَهَوانه؛ كذا جاء في حديث أبي هريرة t وغيره. وقد أتينا عليه في كتاب «التذكرة» والحمد لله. وقيل: هو بمنزلة قول القائل لمن يعذبه: لأذيقنّك العذاب ولأخرجنّ نفسك؛ وذلك لأنهم لا يخرجون أنفسهم بل يقبضها مَلَك الموت وأعوانه. وقيل: يقال هذا للكفار وهم في النار. والجواب محذوف لعظم الأمر؛ أي ولو رأيت الظالمين في هذه الحال لرأيت عذاباً عظيماً. والهون والهوان سواء. و{ تَسْتَكْبِرُونَ} أي تتعظّمون وتأنفون عن قبول آياته.
وقال الله سبحانه وتعالى :
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَابِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوۤاْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ }. (37) الأعراف .
وقال الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره :
قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} المعنى أيّ ظلم أشنع من الافتراء على الله تعالى والتكذيب بآياته. ثم قال: {أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَابِ} أي ما كتب لهم من رزق وعمر وعمل؛ عن ٱبن زيد. ابن جُبَيْر: من شقاء وسعادة. ٱبن عباس: من خير وشر. الحسن وأبو صالح: من العذاب بقدر كفرهم. واختيار الطبري أن يكون المعنى: ما كتب لهم، أي ما قدر لهم من خير وشر ورزق وعمل وأجل؛ على ما تقدّم عن ٱبن زيد وٱبن عباس وٱبن جبير. قال: ألا ترى أنه أتبع ذلك بقوله: {حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} يعني رسل ملك الموت. وقيل: «الْكِتَاب» هنا القرآن؛ لأن عذاب الكفار مذكور فيه. وقيل: «الكتاب» اللوح المحفوظ. ذكر الحسن بن عليّ الحُلْوَانيّ قال: أمْلَى عليّ علِيُّ بن المدِينِي قال: سألت عبد الرحمن بن مَهْدِيّ عن القَدَر فقال لي: كل شيء بقدر، والطاعة والمعصية بقدر، وقد أعظم الفِرية من قال: إن المعاصي ليست بقدر. قال عليّ وقال لي عبد الرحمن بن مهدي: العلم والقدر والكتاب سواء. ثم عرضت كلام عبد الرحمن بن مَهدِيّ على يحيى بن سعيد فقال: لم يبق بعد هذا قليل ولا كثير. وروى يحيى بن مَعِين حدّثنا مَرْوَان الفزارِيّ حدّثنا إسماعيل بن سميع عن بُكير الطويل عن مجاهد عن ٱبن عباس «أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ» قال: قوم يعملون أعمالاً لا بدّ لهم من أن يعملوها. و«حَتّى» ليست غاية، بل هي ابتداء خبر عنهم. قال الخليل وسيبويه: حتى وإمّا وألاَ لا يُمَلْنَ لأنهن حروف ففَرْقٌ بينها وبين الأسماء نحو حُبْلى وسَكْرَى. قال الزجاج: تكتب حتى بالياء لأنها أشبهت سكرى،ولو كتبت ألاَ بالياء لأشبهت إِلَى. ولم تكتب إمّا بالياء لأنها «إنْ» ضُمت إِليها ما. {ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ} سؤال توبيخ. ومعنى «تَدْعُونَ» تعبدون. {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} أي بطلوا وذهبوا. قيل: يكون هذا في الآخرة. {وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} أي أقرّوا بالكفر على أنفسهم.
كتاب :
( ترهيب المؤمنين الموحدين من اتباع الخوارج الليبراليين الانحلاليين والانسلاخ من دين رب العالمين )