قال المؤلف عفا الله تعالى عنه :
ذكر ما جاء في نهي الله تعالى من ولاء المؤمنين للكافرين وما توعدهم به رب العالمين .
قال الله سبحانه وتعالى :
{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَهـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ (53) }. المائدة .
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره :
فيه مسألتان:
الأولى {ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ} مفعولان لِ تَتَّخِذُوا؛ وهذا يدل على قطع الموالاة شرعاً، وقد مضى في «آل عمران» بيان ذلك. ثم قيل: المراد به المنافقون؛ المعنى يأيها الذين آمنوا
بظاهرهم ، وكانوا يوالون المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين. وقيل: نزلت في أبي لبابة، عن عِكرمة. قال السدي: نزلت في قصة يوم أُحُد حين خاف المسلمون حتى همَّ قومٌ منهم أن يوالوا اليهود والنصارى. وقيل: نزلت في عُبَادة بن الصّامت وعبدالله بن أُبيّ بن سَلُول؛ فتبرأ عبادة رضي الله عنه من موالاة اليهود، وتمسك بها ٱبن أبي وقال: إني أخاف أن تدور الدوائر. {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} مبتدأ وخبره؛ وهو يدل على إثبات الشرع الموالاة فيما بينهم حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض.
الثانية قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ} أي يعضدهم على المسلمين «فَإنَهُ مِنْهُمْ» بيّن تعالى أن حُكمه كحُكمهم؛ وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ٱبن أُبي ثم هذا الحُكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة؛ وقد قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ} (هود: 113) وقال تعالى في «آل عمران»: {لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 28)
وقال تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} (آل عمران: 118) وقد مضى القول فيه وقيل: إن معنى {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي في النُّصرة. {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} شرط وجوابه؛ أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم؛ فصار منهم أي من أصحابهم.
قوله تعالى: {فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق، وقد تقدّم في «البقرة» والمراد ابن أبي وأصحابه {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي في موالاتهم ومعاونتهم. {يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} أي يدور الدهر علينا إمّا بقحط فلا يَميروننا ولا يُفْضِلوا علينا، وإمّا أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يدوم الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا القول أشبه بالمعنى؛ كأنه من دارت تدور، أي نخشى أن يدور الأمر؛ ويدل عليه قوله u : {فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ} ؛ وقال الشاعر:
يردّ عنك القَدَر المقدورا ودائراتِ الدهر أن تَدورا
يعني دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم. وٱختلف في معنى
الفتح؛ فقيل: الفتح الفصل والحكم؛ عن قَتَادة وغيره. قال ابن عباس: أتى الله بالفتح فقُتِلت مُقاتِلة بني قُرَيظة وسُبيت ذراريهم وأُجْلَي بنو النَّضِير. وقال أبو علي: هو فتح بلاد المشركين على المسلمين. وقال السّدي: يعني بالفتح فتحَ مكة. {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} قال السّدي: هو الجزية. الحسن: إظهار أمر المنافقين والإخبار بأسمائهم والأمر بقتلهم. وقيل: الخصب والسّعة للمسلمين. {فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أي فيصبحوا نادمين على توليهم الكفار إذا رأوا نصر الله للمؤمنين، وإذا عاينوا عند الموت فبُشّروا بالعذاب.
قوله تعالى: {وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} وقرأ أهل المدينة وأهل الشام: «يَقُولُ» بغير واو. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق: «وَيَقُولَ» بالواو والنصب عطفاً على «أَنْ يَأَتي» عند أكثر النحويين، التقدير: فعسى الله أن يأتي بالفتح وأن يقول وقيل: هو عطف على المعنى؛ لأن معنى {فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ} وعسى أن يأتي الله بالفتح؛ إذ لا يجوز عسى زيد أن يأتي ويقومَ عمرو، لأنّه لا يصحّ المعنى إذا قلت: وعسى زيد أن يقوم عمرو، ولكن لو قلت: عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو كان جيداً. فإذا قدّرت التقديم في أن يأتي إلى جنب عسى حَسُن؛ لأنه يصير التقدير: عسى أن يأتي وعسى أن يقوم، ويكون من باب قوله:
ورأيت زوجك في الوغى مُتقلِّداً سيفاً ورُمحا
وفيه قول ثالث وهو أن تعطفه على الفتح؛ كما قال الشاعر:
لَلُبْس عَباءةٍ وَتَقرّ عيني
ويجوز أن يجعل «أَنْ يَأْتَي» بدلاً من اسم الله جل ذكره؛ فيصير التقدير: عسى أن يأتي الله ويقول الذين آمنوا. وقرأ الكوفيون: {وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} بالرفع على القطع من الأوّل. {أَهُـۤؤُلاۤءِ} إشارة إلى المنافقين. {أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ} حلفوا وٱجتهدوا في الإيمان. {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي قالوا إنهم، ويجوز «أنهم» نصب ب «أقسموا» أي قال المؤمنون لليهود على جهة التوبيخ: أهؤلاء الذي أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم يعينونكم على محمد. ويحتمل أن يكون من المؤمنين بعضهم لبعض؛ أي هؤلاء الذين كانوا يحلِفون أنهم مؤمنون فقد هتك الله اليوم سترهم {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت بنفاقهم. {فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} أي خاسِرين الثواب. وقيل: خسِروا في موالاة اليهود فلم تحصل لهم ثمرة بعد قتل اليهود وإجلائهم.
و قال الله سبحانه وتعالى :
{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (28) آل عمران .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره :
نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد على ذلك، فقال تعالى: { وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَىْءٍ} أي ومن يرتكب نهي الله في هذا، فقد بريء من الله، كما قال تعالى : { خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} ، وقال تعالى : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} ، وقال تعالى: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية، وقال تعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب { وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ٱلأٌّرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} ، وقوله تعالى: { إِلاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً} أي إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء: أنه قال: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم». وقال الثوري : قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس: إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية وأبو الشعثاء والضحاك والربيع بن أنس. ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى: { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـٰنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ} الآية. وقال البخاري: قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة، ثم قال تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ} أي يحذركم نقمته أي مخالفته وسطوته في عذابه لمن والى أعداءه، وعادى أولياءه. ثم قال تعالى: { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ} أي إليه المرجع والمنقلب فيجازي كل عامل بعمله. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا مسلم بن خالد عن ابن أبي حسين، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، قال: قام فينا معاذ بن جبل، فقال: يابني أود، إني رسول رسول الله إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الجنة أو إلى النار.