قال المؤلف عفا الله تعالى عنه :
الفصل الثالث عشر :
براءة رب العالمين ونبيه الأمين r ممن تشيع وفرق الدين .
قال الله سبحانه وتعالى :
) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون (159) (َ الأنعام .
قال محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى في تفسير المنار:
قد كانت خاتمة ما وصى الله تعالى به هذه الأمة على لسان خاتم رسله r آنفا الأمر باتباع صراطه المستقيم ، والنهي عن اتباع غيره من السبل ، وقد ذكر بعد تلك الوصايا شريعة التوراة المشابهة لشريعة القرآن ووصاياه ، مما علم به أن هذه أكمل ، لأن الأشياء إنما تكمل بخواتيمها وقفى على ذلك بالمقارنة بين أهل الكتاب والعرب أئمة أهل القرآن ، مذكرا إياهم باعتقادهم أنهم أقوى من أهل الكتاب استعدادا للهداية ، محتجا عليهم بذلك عسى أن يثوب المستعدون للإيمان إلى رشادهم ، ويكفر المعاندون في عاقبة عنادهم ، وتلا ذلك تذكيره لهم ولسائر المخاطبين بالقرآن مما ينتظر في أخر الزمان لكل من الأمم والأفراد ، ولما تمت بذلك الحجة ، ووضحت المحجة . ذكر ــ تعالى جده وجل ثناؤه ــ هذه الأمة بما هي عرضة له حسب سنن الإجماع من إضاعة الدين بعد الاهتداء به ، بمثل ما أضاعه به من قبلهم . وهو الاختلاف والتفرق فيه بالمذاهب والآراء والبدع التى تجعلهم أحزابا وشيعاً ، تتعصب كل منها لمذهب من المذاهب أو إمام فيضيع العلم وتنفصم عروة الوحدة للأمة الواحدة بعد أخوة الإيمان وتصبح أمما متعادية ليس لها مرجع متفق عليه يجمع كلمتها فيحل بها ما حل بالأمم التي تفرقت قبلها ، فقال U : ) إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ ( قرأ الجمهور (فرقوا دينهم : من التفريق وهو الفصل بين أجزاء الشئ الواحد وجعله فرقا وأبعاضا . وقرأ حمزة و الكسائي (فارقوا) من المفارقة للشيء وهو تركه والانفصال منه ، وهذه القراءة رويت عن علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما ، وهي تفيد أن تفريق الدين قد يستلزم مفارقته لأنه واحد لا يتجزأ ، فمن التفريق الإيمان ببعض الكتاب دون بعض ولو بالتأويل وترك العمل ، والكفر بالبعض كالكفر بالجميع مفارقة للدين الذي لا يتجزأ ) أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض 2: 85 ( الآية ومثله الإيمان ببعض الرسل دون بعض . على أن المفارقة قد تكون للجماعة التي تقيم الدين لا أصل الدين وجحوده والكفر به أو تأويل هدايته ، وسيأتي تفصيل القول في ذلك :
ذهب بعض مفسري السلف إلى أن الآية نزلت في أهل الكتاب إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى فجعلوه أديانا مختلفة ، وكل منها مذاهب تتعصب لها شيع مختلفة يتعادون ويتقاتلون فيه . وذهب آخرون إلى أنها في أهل البدع والفرق الإسلامية التي مزقت وحدة الإسلام بما استحدثت من النحل والمذاهب ، وكل من القولين حق ، والصواب هو الجمع بينهما ، فإن الله تعالى بعد أن أقام حجج الإسلام في هذه السورة وأبطل شبهات الشرك ذكر أهل الكتاب وشرعهم . وأمر المستجيبين لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق كما تفرق من قبلهم وقد فصل هذا بقوله بعد الأمر بالاعتصام والنهى عن التفرق من سورة آل عمران : ) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاء هم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (109 )( ، ثم بين أن رسوله r بريء من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كما فعل أهل الكتاب ، فهو يحذر ما صنعوا ، فمن اتبع سنتهم في هذا التفريق أحق ببراءة الرسول r منه بعد هذا البيان والتحذير .
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : اختلفت اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد r فلما بعث محمد أنزل الله تعالى عليه : ) إن الذين فرقوا دينهم ( الآية وأخرج أكثر رواة التفسير المأثور عن أبي هريرة في قوله تعالى : ) إن الذين فرقوا دينهم ( الآية . قال هم في هذه الأمة بل أخرج الحكيم الترمذي وابن جرير والطبراني وغيرهم عنه عن النبي r ((هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة )) وأخرج الحكيم الترمذي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن عمر بن الخطاب t أن النبي r قال لعائشة ((يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة . يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة إلا صاحب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة . أنا منهم برئ وهم مني برآء )) وليس المعني أنهم إذا عرفوا بدعتهم وظهر لهم خطؤهم فرجعوا وتابوا إلى ربهم لا يقبل توبتهم ، بل معناه أنهم لا يتوبون لأنهم يزعمون أنهم مصيبون . انتهى ملخصاً من الدر المنثور ــ وثمة آثار رويت عن بعض السلف بأنهم الحرورية أو الخوارج مطلقاً ، ومراد قائلها أنهم منهم لا أن الآية فيهم وحدهم . وجاء في الكلام على الآية من كتاب الاعتصام للإمام أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي مانصه :
قال ابن عطية : هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام ، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد ، ( قال الشاطبي ) يريد والله أعلم بأهل التعمق في الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في فصل ذم الرأي من كتاب العلم له وسيأتي ذكره بحول الله . وحكى ابن بطال في شرح البخاري عن أبي حنيفة أنه قال : لقيت عطاء بن أبي رباح بمكة فسألته عن شيء فقال : من أين أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة . قال : أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ؟ قلت : نعم ، قال : من أي الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحداً بذنب . فقال عطاء : عرفت فألزم . وعن الحسن قال : خرج علينا عثمان بن عفان t يوماً يخطبنا فقطعوا عليه كلامه فتراموا البطحاء ، حتى جعلت ما أبصر أديم السماء . قال : وسمعنا صوتاً من إحدى حجر أزواج النبي r فقيل : هذا صوت أم المؤمنين . قال فسمعتها وهي تقول : ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب ، وتلت : ) إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ( قال القاضي إسماعيل : أحسبه يعني بقول أم المؤمنين أم سلمة وأن ذلك قد ذكر في بعض الأحاديث وقد كانت عائشة في ذاك الوقت حاجّة وعن أبي هريرة أنها نزلت في هذه الأمة . وعن أبي أمامة هم الخوارج . قال القاضي : ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية ، لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعاً انتهى .