قال المؤلف عفا الله تعالى عنه :
مسألة في وجوب الحكم على من اغتصب امرأة أو أنجب أولادا وثبت عليه الاغتصاب أو المولود من غير نكاح شرعي وأنكر ذلك بأشد العقوبات ؛ بعد ثبوتها عليه ؛ أو تزويجه لمن اغتصبها أو أنجب منها نكاحا شرعيا وينسب أولاده إليه ؛ ولما لا ؛ إذا كان الله تعالى قد حكم في أدنى منها بأشد العقوبات على مرتكبيها . تنفيرا عنها ؛ فإن الأحكام الشرعية التي فيها قصاص ؛ إنما هي لزجر الناس ضعاف الإيمان عن إتيانها ؛ والذي يجب في الحكم عليه ؛ هو توقيفه حتى ينكح المرأة وينسب ولده إليه ؛ وإذا لم يجب لذلك يحذر من فضيحته بين أهله أولا ؛ فإذا لم يجب يحذر من فضيحته فضيحة عامة ؛ ولا يطلق سراحه لذلك . وهل للقاضي أن يعقد عليه نكاحها ونسب ولده إليه وهو كاره ؛ قلت : يحتاج إجماع . ثم حكومة .
قال الله سبحانه وتعالى :
{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }
( سورة المائدة ) .
قلت : فأي فساد أكبر وأعظم من الاعتداء على الأعراض وإنجاب الأطفال بأي طريقة غير شرعية كانت . ولا يخفى على عاقل ما تلاقيه المغتصبة بعد اغتصابها من أهلها وعامة الناس .
وقال الله سبحانه وتعالى :
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) } . ( سورة المائدة ) .
قلت : فأيهما أعظم سرقة المال ؛ أو سرقة الأعراض ؛ فالمال يمكن استرداده أو تعويضه ؛ أما الأعراض فهيهات أن ترد أو تعوض ؛ أليس ذلك .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره :
يَقُولُ تَعَالَى حَاكِمًا وَآمِرًا بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الجُعْفي، عَنْ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيِّ؛ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا". وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ مُوَافِقًا لَهَا، لَا بِهَا، بَلْ هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. وَقَدْ كَانَ الْقَطْعُ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فقُرِّرَ فِي الْإِسْلَامِ وَزِيدَتْ شُرُوطٌ أخَر، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا كَانَتِ الْقِسَامَةُ وَالدِّيَةُ والقرَاض وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَقْرِيرِهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَزِيَادَاتٌ هِيَ مِنْ تَمَامِ الْمَصَالِحِ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَطَعَ الْأَيْدِيَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قُرَيْشٌ، قَطَعُوا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: "دُوَيْكٌ" مَوْلًى لِبَنِي مُلَيح بْنِ عَمْرٍو مِنْ خُزَاعة، كَانَ قَدْ سَرَقَ كَنْزَ الْكَعْبَةِ، وَيُقَالُ: سَرَقَهُ قَوْمٌ فَوَضَعُوهُ عِنْدَهُ . ( تفسير الحافظ ابن كثير ) .