قال المؤلف عفا الله تعالى عنه :
ذكر ما جاء في تمني الكفار لو كانوا مسلمين .
قال الله سبحانه وتعالى :
{ الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) }
سورة الحجر .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره :
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور.
وقوله: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا مع المسلمين في الدار الدنيا. ونقل السُّدِّيّ في تفسيره بسنده المشهور عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وغيرهما من الصحابة : أن الكفار لما عُرضوا على النار، تمنوا أن لو كانوا مسلمين .
وقيل : المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمنا .
وقيل : هذا إخبار عن يوم القيامة ، كما في قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنعام : 27 ] .
وقال سفيان الثوري : عن سلمة بن كُهَيْل ، عن أبي الزعراء ، عن عبد الله ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) في قوله : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } قال : هذا في الجُهنَمين إذ رأوهم يخرجون من النار.
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى، حدثنا مسلم، حدثنا القاسم، حدثنا ابن أبي فَرْوة العَبْدي ؛ أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } يتأولانها : يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار. قال : فيقول لهم المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا. قال : فيغضب الله لهم بفضل رحمته، فيخرجهم ، فذلك حين يقول : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن خصيف ، عن مجاهد
قالا يقول أهل النار للموحدين : ما أغنى عنكم إيمانكم ؟ فإذا قالوا ذلك. قال : أخرجوا من
كان في قلبه مثقال ذرة . قال : فعند ذلك قوله : { [ رُبَمَا ] يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } .
وهكذا روي عن الضحاك، وقتادة، وأبي العالية ، وغيرهم . وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني .
حدثنا محمد بن العباس ، هو الأخرم ، حدثنا محـمد بن منصور الطوسي ، حدثنا صالح بن إسحاق الجهبذ دلني عليه يحيى بن معين حدثنا مُعَرّف بن واصل ، عن يعقوب بن أبي نباتة عن عبد الرحمن الأغر ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليـه وسلم : "إن ناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم ، فيقول لهم أهل اللات والعزى : ما أغنى عنكم قولكم : لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار ؟ . فيغضب الله لهم، فيخرجهم ، فيلقيهم في نهر الحياة ، فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه، فيدخلون الجنة ، ويسمَّون فيها الجهنميين" ؛ فقال رجل : يا أنس ، أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليـه وسلم ؟ فقال أنس : سمعتُ رسول الله صلى الله عليـه وسلم يقول : "من كذب علي متعمدًا ، فليتبوأ مقعده من النار". نعم ، أنا سمعت رسول الله صلى الله عليـه وسلم يقول هذا.
ثم قال الطبراني: تفرد به الجهبذ .
الحديث الثاني :
وقال الطبراني أيضا : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبو الشعثاء علي بن حسن الواسطي ، حدثنا خالد بن نافع الأشعري ، عن سعيد بن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليـه وسلم : " إذا اجتمع أهل النار في النار ، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين ؟ قالوا : بلى . قالوا : فما أغنى عنكم الإسلام ! فقد صرتم معنا في النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها. فسمع الله ما قالوا ، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا ، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا : يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا" . قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليـه وسلم : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِين رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } .
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث خالد بن نافع به ، وزاد فيه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، عوض الاستعاذة .
الحديث الثالث :
وقال الطبراني أيضا : حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا إسحاق بن راهويه قال : قلت لأبي أسامة : أحدثكم أبو روق واسمه عطية بن الحارث -: حدثني صالح بن أبي طريف قال : سألت أبا سعيد الخدري ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) فقلت له : هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } ؟ قال : نعم ، سمعته يقول : "يُخرج الله ناسا من المؤمنين من النار بعد ما يأخذ نقمته منهم" ، وقال : "لما أدخلهم الله النار مع المشركين قال لهم المشركون : تزعمون أنكم أولياء الله في الدنيا ، فما بالكم معنا في النار؟ فإذا سمع الله ذلك منهم ، أذن في الشفاعة لهم فتشفع الملائكة والنبيون ، ويشفع المؤمنون ، حتى يخرجوا بإذن الله ، فإذا رأى المشركون ذلك ، قالوا: يا ليتنا كنا مثلهم، فتدركنا الشفاعة، فنخرج معهم". قال: "فذلك قول الله: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } فيسمون في الجنة الجُهَنَّمِيِّين من أجل سَواد في وجوههم، فيقولون : يا رب ، أذهب عنا هذا الاسم ، فيأمرهم فيغتسلون في نهر الجنة ، فيذهب ذلك الاسم عنهم" ، فأقر به أبو أسامة ، وقال : نعم .
الحديث الرابع :
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين، حدثنا العباس بن الوليد النرسي حدثنا مسكين أبو فاطمة ، حدثني اليمان بن يزيد ، عن محـمد بن حِمْير عن محـمد بن علي ، عن أبيه، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليـه وسلم : "منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته ، ومنهم من تأخذه النار إلى عنُقه ، على قدر ذنوبهم وأعمالهم ، ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها ، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها ، وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى ، فإذا أراد الله أن يخرجوا منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان والأوثان ، لمن في النار من أهل التوحيد : آمنتم بالله وكتبه ورسله ، فنحن وأنتم اليوم في النار سواء ، فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى ، فيخرجهم إلى عين في الجنة ، وهو قوله : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } .
وقوله : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا } تهديد لهم شديد ، ووعيد أكيد ، كقوله تعالى : { قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } [ إبراهيم : 30 ] وقوله : { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } [ المرسلات : 46 ] ولهذا قال : { وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ } أي : عن التوبة والإنابة ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي : عاقبة أمرهم . ( تفسير الحافظ ابن كثير ) .
كتاب : الأصل الثاني الإسلام .
من كتاب ثلاثة أصول وفروع الدين من وحي رب العالمين وفتوى وأمر خاتم النبيين صلى الله عليه وسلـم .